- هذا الموضوع فارغ.
- الكاتبالمشاركات
- ديسمبر 10, 2021 الساعة 1:28 م #16755admin adminمدير عام
أنطوان سعد/ رأي
هل صحيح أن الكتلة الوسطية تعني الوقوف على ” الحياد “ بين الخير والشر ؟ و بين الإصلاح والفساد ؟ وكما قيل ، بين النور والظلام ؟
أم أنها ، كما عرّفها الرئيس وباركها البطريرك ، دعوة صادقة للخروج من دوامة التجاذبات المدمّرة ، والمواجهات العدائية ، والنيات ألإلغائية …
من أجل ذلك يجدر بنا العودة إلى جذور الوسطية ، وفكرة أحزاب الوسط ، ومفهومها في الدول التي عَرِفتها ؟
تتمثّل الأحزاب الوسطية في التيارات السياسية التي ترفض البقاء في صف الأحزاب المحافظة اليمينية كما ترفض تطرّف اليسار وتقلّباته وتؤمن بالتطوّر المبرمج في الحياة السياسية والإجتماعية وفقاً لتطلّعات كل دولة . وتنشأ أحزاب الوسط ، متفرّعة ً عن الأحزاب الليبرالية والراديكالية ، نتيجة رفضها للإيديولوجيات المقيدة ، وتبنّيها البراغماتية السياسية ، فتشكّل نقطة الإعتدال بين المتطرّفين والمحافظين ، وهي تمنع الثنائية الحزبية من فرملة الحياة السياسية أو تعطيلها ، في كل مرة توصل هذه الثنائية الحادة البلاد إلى أزمة حكم .
هكذا، ولأن في داخل كل الأحزاب فئات المتساهلين والمتصلبين ، الدبلوماسيين والعقائديين ، المتسامحين والساخطين كما الإختلاف بين الراديكالية المتطرفة والراديكالية المعتدلة مما يؤدي إلى انشقاقات داخل الأحزاب ، فتتولد أحزاب الوسط ، التي تتدرّج أحياناً في التحول من اليمين إلى الوسط ، ثم إلى اليسار ، أو بالعكس ، ويسمى هذا التحول ” Sinistrisme ” أي الدفع المستمر ، بالإنتقال من اليمين إلى اليسار والتأرجح بينهما ، ما يؤدي إلى زوال الحزب القديم وقيام حزب بمفهوم جديد ، وإعادة تكوين الثنائية الحزبية ، كما يحصل في الأنظمة الأنكلوساكسونية التي تتجدّد دائماً . لذا وبعد مرور عدة عقود تسهم هذه الأحزاب في تجدّد الثنائيـة أو تحدث تغيّراً جذريـاً ، في المطلق.
وبعــد التحـوّل مــن الثنائيـة إلى التعدديـة من خـلال قـوى الوســط Les forces centrifuges ، فإن هذه التعددية قابلة أيضاً إلى التطور عن طريق العودة إلى الثنائية بعد المرور بمرحلة إنتقالية تسمّى Bipolarisation وهي المرحلة التي ينتهي فيها دور أحزاب التعددية إلى الثنائية من خلال توزع قوى الوسط أو التعددية في إطار الثنائية الحزبية التي تسيطر على الحياة السياسية في البلاد كما حصل في فرنسا في ظل الجمهورية الخامسة بعد إقرار إنتخاب الرئيس مباشرة من الشعب .
لم تعرف الأنظمـة الأنكلوساكسونية الأحزاب الوسطيـة ، لأن الثنائيـة الحزبية The Two party system / le Bipartisme هي التي تقبض على النظام البرلماني فيها ، كما هي الحال في بريطانيا حيث اقتصرت الحياة الحزبية على حزب ” توريس Torys ” ، الذي تحوّل في القرن التاسع عشر إلى ” حزب المحافظين Conservative Party ” ، وعلى حزب ” الويغز Wigs ” أي الثوار السكوتلانديين (4) ، الذي اصبح في أواسط القرن التاسع عشر ” الحزب الليبرالي ” ثم ” حزب العمال ” المعروف حالياً في بريطانيا . وإن هذه الثنائية الحزبية المطبَّقة في دول الكومنولث ، أسهمت في تكريس النظام البرلماني الكلاسيكي . (نشير هنا إلى أن هذه الثنائية معتمدة أيضاً في النظام الرئاسي المطلق في الولايات المتحدة الأميركية) .
أما الدول التي تعتمد النظام البرلماني ضمن التعددية الحزبية ، فهي ، إلى جانب فرنسا ، وعلى سبيل المثال : سويسرا بعد انكسار الثنائية في العام 1848 ، التي تحولت إلى ثلاثية ثم رباعيـة Quadripartisme ، وفي تشيكوسلوفاكيا بعد انقسام التشيكييـن والسلوفاكييـن في جمهورية ” Thomas Masayk ” ، والجنوح نحو التعددية ، وإيطاليا ، وإسبانيا (مع نشوء حركات الإستقلال الذاتي في كاتالونيا والباسك) وفي البرتغال ، واليابان ، وبلجيكا مع (انشقاق الفلامان والوالون) والتحول إلى الثلاثية Tripartisme ، وهولندا ، والسويد (1911) والنروج (1918) واللوكسومبور والدول السكاندينافية (حيث برزت الثلاثية في العام 1900 ثم الرباعية بعد تصادم الليبراليين والمحافظين) وفنلندا وإيسلندا وإيرلندا والإتحاد الهندي ، وماليزيا … فإنها وفي مراحـل مختلفة ، كما رأينا شهدت بروز الأحزاب الوسطية .
في فرنسا ظهرت الوسطية على أثر قيام الثورة الفرنسية عندما راحت مجموعة حزبية تنادي بعدم العودة إلى النظام الملكي ، بينما تمسكت به مجموعة أخرى ، فنشأت كتلة وسطية بينهما سميت ” المستنقع Le Marais أو السهل La plaine” .
وتوالت الأحزاب الوسطية في فرنسا طوال الفترة التي تلت الثورة ، فظهرت أيضاً في عهد الملكية الأورليانية نسبة إلى الملك Louis Philippe d’Orleans مع حزب المعتدلين ، ومن أبرز رجالاته المؤرخ Guizot و Roger – Collard وقد تمكن بعد حين من الوصول إلى سدّة الحكـم من خلال الممارسـة المعتدلـة ، بينما فشل في ذلك الحزب الملكـي المتطرف Ultra Royaliste ومن أبرز زعمائة Chateaubriand , Villèle, Corbière . كما تمكن أيضاً حزب الأحرار أيضاً من الوصول إلى السلطة ، ومن أركانه العالم الدستوري Benjamin Constant والجنرال Casimire Paier والأستاذ Foy.
وتبلور مصطلح الوسطية في الجمهورية الثالثة (ما بين 1922 و 1936) ، بعدما راح بعض ممثلي أحزاب اليمين واليسار يتوافقون ، للتوصل إلى تأليف الحكومة . والأمر نفسه فعلته الكتلة الوسطية في فرنسا أيام الجمهورية الرابعة ، التي تبنّت بعضاً من أهداف اليمين (التعليم الخاص) واليسار (المسألة الأوروبية) .
في الجمهورية الخامسة ، ظهرت كتلتان وسطيتان بين العاميـن 1959 و 1974 ، هما الحزب الديمقراطي المسيحي (دون التمسك بنظرية مسيحية معينة) ، والحزب الراديكالي الإشتراكي MRG ، إلى جانب أحزاب أخرى مثلU.D.R و C.D.S التي نشأت في الأصل عام 1962 ككتل وسطية بعد قيام الجمهورية الخامسة عام 1958 وكان أهم ما يجمعها رفضها لانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب وقد عُـرف القياديون فيهـا تحـت إسم «Le Cartel des non» وهو ظهــر تأثيرهــا اعتبـاراً من العــام 1969، وفي العام 1974 دعمت الرئيس Valéry Giscard d’Estaing الذي حكم فرنسا من خلال أحزاب الوسط المنضوية تحت قيادة رئيس وزرائه Raymond Barre .
ثم تقلصت قوة أحزاب الوسط مع عودة ” حزب التجمع من أجل الجمهورية ” إلى البرلمان بقوة في العام 1981R.P.R بزعامةJacques Chirac إلى أن تمكنت الكتلة الوسطية التي تجمعت ما بين العامين 1988 و 1993 من الوصول إلى البرلمان والدخول في حكومة Edouard Balladur في العام 1995 ، وفي حكومة Alain Juppé في العام 1997 ، ثمّ تجمع هؤلاء تحت رئاسة François Bayrou وحصدوا في العام 2002 سبعة مقاعد و19 مقعداً في العام 2007 ، إلا أنهم ما لبثوا أن تحولوا إلى التيار الديمقراطي.
هذا في فرنسا أما في الدول الأخرى فقد برز الحزب الوسطي في ألمانيا ، وهو المعروف بإسم Zentrum أو الوسط الكاثوليكـي وكذلك S.P.D. الذي وجد له مكاناً في الوسط في العام 1992 حتى أنه فاز في انتخابات العام 1998 بزعامة Gerhard Schrôder، والحزب الديمقراطي الوسطي الإيطالي المنبثق من حزب اليسار الإشتراكي بشقيه (الإشتراكية التقليدية والإشتراكيـة التقدمية) ، وحزب الخضر الوسطي ويتزعمه اليوم Titti Di salvo.
رفض العالم السياسي Maurice Duverger وجود الوسطية كمكّون ثابت في اللعبة السياسية، حيث تلتقي ظرفياً القـوى المتعارضـة من اليمين واليسار وهو وصفها بقوله المأثور:
ليس هناك رأي مركزيّ، ولا نزعة مركزيّة ، ولا عقيدة مركزيّة … ولكن هناك ضعف، توهين، اعتدال.
في حين تبنّاها Georges Burdeau باعتبارها موجودة في الحياة السياسية الفرنسية على أنها التجمّع الذي يرفض التطرف .
ولئن كانت الأحزاب الوسطية، وخلال أكثر من مايتي عام ، لم تتمكن من فرض نظرية الوسطية ، ولم تستطع تحويل قواها التي وصلت إلى السلطة ، في حزب يؤمن التواصل المستمر بين القوى المنضوية فيه ، والمحافظة على مبادئه ، إلا أنها عرفت بالمقابل كيفية الوصول إلى الحكم والخروج من مآزق الثنائية .
بين مؤيد ومعارض للوسطية التي قد يجدها البعض عاجزة عن بناء هيكلية حزبية تؤمن لها الإستمرارية على المدى البعيد ، بحكم عدم تمسكها بعقيدة سياسية معينة ، أو حتى ببرنامج سياسي واضح ومحـدد الأهداف ، وهي برفضها للتقليد والتطرف ، وتمسكها بضرورة منع الثنائية من فرملة الحياة السياسية ، فإن هذا ما يجعلها مقبولة في الحياة السياسية ، حيث يؤدي بروز الكتل الوسطية إلى الخروج من حمأة التنافس الحاد بين مكوّنات الثنائية الراهنة كما هو عليه الأمر في لبنان اليوم بين قوى وأحزاب 8 و 14 آذار ، فيكون من شأنها أن تمتصّ سلبيات المواجهة بينهمـا ، لا سيما في حالة عدم احترام الأقلية في لبنان لمبادىء النظام البرلماني ، الذي تحكم فيه الأكثرية وتعارضها الأقلية . وعندما تقف الوسطية إلى جانب أحد طَرَفَي الثنائية ، فإنها ترجح كفة الحكم فيتقدم الإعتدال على منطق الغالب والمغلوب ، وفقاً لما يسود في الأنظمة التي تُحترم فيها نتائج الإنتخابات وتتقدم فيها الحياة البرلمانية على خطاب المواجهة في الشارع لا سيما في ظل وجود السلاح بيد أحد الأطراف ، حيث يستحيل التوفيق بين منطق الديمقراطية ومنطق القوة .
لذا ، وإن كانت الأحـزاب الوسطية حالـة ” ظرفية ” في بعـض الـدول ، وحـالة ” متكررة ” ، أو غير موجودة على الإطلاق في دول أخرى ، فإن ظهورها الظرفي أو الدائم ، من شأنه أن يحدّ من التنافس القائم بين الثنائية ، فيشتت الصراع بينهما ، وقد تسهم هذه الوسطية (في حال استمرارها) ، في بروز الثلاثية أو الرباعية ( أي التعددية الحزبية Multipartisme) ، وهذا من شأنه تعزيز دور رئيس الجمهورية في النظام السياسي اللبناني ، مرحلة ما بعد الطائف ، بدلاً من وقوفه متفرجاً على صراع الثنائية ، عاجزاً عن الفصل بينهما .
يتضح مما قلناه أن نشوء ” كتلة وسطية ” ، مؤلفة من عناصر مستقلة ومتحررة ، من شأنها المساهمة في إخراج لبنان من دوامة التجاذبات العنيفة الناتجة عن تصادم الثنائية القائمة لوجود خلفيات متراكمة بينها ، عدائية وإلغائية ، تحتاج إلى تهدئة وتوعية . ولعلّه من الأفضل والأصوب إعطاء معنى ” الوفاق والتوفيق ” للتوجّه الوسطي الذي أيّده الرئيس وباركه البطريرك ، فتشكّل الوسطية مرحلة إنتقالية قبل العودة إلى الثنائية كأسلوب برلماني للحكم لا يخضع لضوابط يفرضها منطق السلاح غير الشرعي كأسلوب لقمع الأكثرية ومنعها من الحكم .
ولا يفوتنا التذكير بأن النظام اللبناني هو ديمقراطي توافقي ، ويقتضي الكثير من المرونة والحكمة في التعامل بين فئاته ، ولا يمكن أن يقع في إغراء إستعمال القوة ، للكسر والقهر وتحقيق الغلبة على الذات . فلبنان ” جناحان ” ولكنه واحد ، وهو ثماني عشرة طائفة متوافقة على العيش المشترك ، فلا غالب بقوة السلاح ولا مغلوب مكره ، لا قاهر ولا مقهور . ولعلّه من المفيد أيضاً التذكير بأن الشعب اللبناني المحب للسلام ، يفضّل في قرارة نفسه حكم الإعتدال ، ويأبى التطرّف من أي جَمعة . وهل ننسى مثلاً ، أن الرؤساء فؤاد شهاب ، وشارل حلو ، وسليمان فرنجيه ، والياس سركيس جاؤوا من ” الوسط ” ؟ … وأن الرئيس ميشال سليمان ، حَظِيَ بالإجمـاع ، لأنه لم يكن منحازاً ، بل هو مستقلٌ من صميم الوسط ؟!
لقد سئم اللبنانيون أساليب المكاسرة ، وضاقوا ذرعاً من المواجهات العبثية التي تفني ولا تبني ، ومن حقهم المطالبة بالإعتدال ، والإستقلال و… التلاقي في الوسط !.
- الكاتبالمشاركات
- يجب تسجيل الدخول للرد على هذا الموضوع.